تقوم منظمات أجنبية في غزة تسمى "إنسانية" ، بتوزيع ما يُسمى "صناديق الكرامة"، التي تتضمن عناصر أساسية للنظافة الشخصية مثل الصابون والفوط الصحية وفرشاة ومعجون الأسنان وأحيانا، الملابس الداخلية. تدّعي هذه المنظمات أن الهدف من هذه المساعدات هو الحفاظ على كرامة الأفراد، لا سيما النساء والفتيات، خلال الأزمات.
وأثناء عملية تسليم للمساعدات من الحكومة البريطانية الى مستشفى ميداني في غزة قبل عدة أشهر قال وزير الخارجية ديفيد كاميرون: "الكثير من الناس في غزة يعانون، لا ينبغي لأحد أن يكون بدون أساسيات الحياة مثل المأوى والفراش، والجميع يستحق الكرامة التي توفرها حزم النظافة الأساسية." يحدث ذلك في ذات الوقت الذي تقدم به بريطانيا الدعم العسكري لإسرائيل في عمليات الإبادة الجماعية وتساعد في الهجمات المكثفة على الفلسطينيين في غزة، وتنفذ اتفاقًا تم توقيعه علنًا مع حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، وضمن هذا الاتفاق أجرت بريطانيا وإسرائيل تدريبات ومناورات عسكرية مشتركة لتعزيز العلاقات العسكرية بين البلدين، ووثقت بعض التقارير دعمًا عسكريًا بريطانيًا واسعًا لإسرائيل خلال غزوها لغزة. وقامت القوات الجوية الملكية البريطانية بتنفيذ عشرات المهام التجسسية فوق غزة، وتم تدريب عدد من العسكريين الإسرائيليين في المملكة. بالإضافة إلى ذلك، زارت تسع طائرات عسكرية إسرائيلية بريطانيا، فيما رفضت الحكومة البريطانية الكشف عما كانت تحمله. كما وثقت التقارير تزويد الجيش الأمريكي إسرائيل بالأسلحة من خلال قاعدة بريطانية في قبرص.
وتشمل الاتفاقية أيضًا التزامًا بحماية إسرائيل على الصعيد العالمي، لا سيما في الأمم المتحدة والمحافل الدولية الأخرى، وتقديم الدعم في الهيئات القانونية الدولية مثل محكمة العدل الدولية. وفي إطار هذا الالتزام، دافعت بريطانيا مرارًا وتكرارًا عن إسرائيل في مواجهة الانتقادات الدولية، خاصة فيما يتعلق بالهجمات على غزة. ومن اللافت أن كل ما سبق يتم تجاهله في وسائل الإعلام التي تتحدث عن صناديق الكرامة المقدمة للغزيين.
وهنا، دعونا نفكر، كيف تسلب الحرب الكرامة؟
تبدأ الحرب بنزع الإنسانية وتُعزّز من خطاب وأفعال تجرّد المدنيين المتضررين من قيمتهم البشرية، مما يجعل انتزاع الكرامة منهم أمراً سائغاً لدى مرتكبي الحرب والمتواطئين فيها. إن تشبيه أهل غزة بالحيوانات والحشرات في تصريحات بعض المسؤولين الإسرائيليين وإعلامهم هو محاولة واضحة لتجريدهم من إنسانيتهم، مما يجعل القمع والإذلال أمراً مبرراً في أفعالهم. كما تجبر الحرب الأفراد على النزوح، فتقتلعهم من منازلهم وتجبرهم على العيش في ظروف مزدحمة ومهينة. إن هذا النزوح يجرّد الناس من قدرتهم على التحكم في حياتهم ويجعلهم يعتمدون على المساعدة الخارجية، مما يفاقم من شعورهم بالعجز والاستغلال. في غزة، هذا النزوح لم يحدث لمرة واحدة، بل تكرر عشرات المرات، مما يعمّق من إحساس الناس بفقدان كرامتهم. كما تؤدي الحرب إلى تفكيك الروابط العائلية والمجتمعية الحامية، مما يزيد من مشاعر العزلة والعجز لدى المدنيين، ويقوّض إحساسهم بالانتماء والكرامة، وعلى النقيض من ذلك، يعتبر كل ما يحافظ على التضامن المجتمعي غذاء للكرامة الإنسانية. إن الحرب تدمر البنية التحتية الأساسية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس ومصادر المياه والصرف الصحي، وهذا التدمير يحرم الناس من الوصول إلى احتياجاتهم الأساسية، مما يزيد من تدهور نوعية حياتهم وإحساسهم بالقيمة. إن استهداف المنشآت الصحية وقتل العاملين في المجال الطبي في غزة يُظهر بوضوح أن الهدف هو ليس فقط محو الحياة الجسدية، بل كذلك محو الكرامة الإنسانية والمعنى من الاستمرار في الحياة. إن التعرض للعنف والصدمات المستمرة، من قصف وإطلاق نار وتدمير للمنازل، يغرس إحساسًا دائمًا بالخوف وانعدام الأمن، هذا التهديد المستمر لا يقوض فقط الاستقرار النفسي والعاطفي للأفراد، بل يجردهم من الإحساس بالأمان الذي يُعدّ جزءاً أساسياً من الكرامة الإنسانية؛ فالمنافسة من أجل النجاة و مبدأ البقاء للأقوى قد يفرز أسوأ الصفات البشرية بين المجوّعين والمقهورين.
مشكلتنا مع "صناديق الكرامة" في غزة: 1. ازدواجية المعايير والتواطؤ، فتوزيع "صناديق الكرامة" على سكان غزة من قبل الحكومات والمنظمات التي تسهم أو تتواطأ أو تسكت عن الحصار والعنف الممنهج ضد غزة هو عمل ينطوي على تناقض صارخ. فتلك الكيانات التي تدّعي دعم الكرامة، هي نفسها التي تشارك في خلق الظروف التي تجرّد سكان غزة من إنسانيتهم وكرامتهم. إذ يُعدّ توزيع هذه الصناديق محاولة سطحية لإخفاء المساهمة في الأسباب الجذرية للمعاناة، وكأنها محاولة لإرضاء الضمير الغربي بمنح قليل من الصابون لمن يعانون من العنف المستمر.
2. تقزيم الكرامة إلى مواد مادية، حيث يوحي اسم "صناديق الكرامة" بأن الكرامة يمكن الحفاظ عليها أو استعادتها من خلال مواد نظافة أساسية، إنه أمر مفجع أن يُمدّ الصابون لمن قُتلت عائلاتهم وهُدمت بيوتهم، وكأن الكرامة تُختزل في نظافة الجسد، بينما تُغفل نظافة الروح المتضررة بالظلم والإذلال. إن الكرامة الحقيقية هي شعور إنساني جوهري يتجاوز الأشياء المادية؛ فهي تشمل الاحترام الذاتي، والقيمة الإنسانية الاساسية، والقدرة على العيش بحرية واستقلال. فالكرامة لشعب غزة ترتبط بشكل وثيق بالتحرر من العنف والاحتلال، وبحقهم في تقرير المصير والوصول إلى الخدمات الأساسية دون اعتماد على أحد. بدلا من دعم تمسك الفلسطيني بأرضه وصموده في وجه الإبادة، ترسل مواد عينية للإدعاء الزائف بدعم الفلسطينيين. إن الكرامة ليست مجرد نظافة شخصية؛ إنها الحق في العيش دون اضطهاد، في بيئة آمنة ومستقرة، مع الحق في العلاج والتعليم والعمل والحرية. بالنسبة للفلسطينيين، الكرامة ترتبط بالكفاح من أجل التحرر والعدالة. تقديم صناديق الكرامة لا يلبي الاحتياجات الأعمق والأكثر جوهرية للشعب الفلسطيني، بل يمكن اعتباره محاولة لامتصاص الغضب أو تهدئة الضمائر، مع التغاضي عن الانتهاكات الجسيمة المستمرة لحقوقهم. فمعركة الكرامة ليست فقط معركة مادية، بل هي معركة معنوية تلامس أعمق مشاعر الإنسانية، وهنا نستذكر معركة الكرامة في 1968 لما لها من دلالات أعمق من المكان الذي وقعت فيه.
3. كما يزعجني التمييز بين الجنسين في شأن الكرامة، فنرى هناك حساسية غربية مفتعلة تجاه النساء ضحايا الحرب على حساب الرجال في عدة جوانب. ففي الكثير من الأحيان، تُصوّر النساء كضحايا مستضعفات يحتجن إلى حماية خاصة، في حين يتم تجاهل الرجال، وخاصة المقاومين العرب المسلمين، كضحايا يتعرضون للعنف الجسدي والنفسي ذاته. هذا التصور يعزز الصور النمطية التقليدية التي تصور النساء كعاجزات والرجال كأفراد قادرين على تحمّل المعاناة دون دعم على أحسن تقدير أوكأنهم هم المذنبون في جلب الحرب على أنفسهم وعلى نسائهم، لذا فهم مستثنون من التعاطف الإنساني الغربي و من صناديق الكرامة .
إن إغفال معاناة هؤلاء الرجال واستبعادهم من الرعاية المناسبة يعكس تمييزاً غير مبرر وقد يؤدي إلى زيادة المعاناة لديهم، ويعزز التقسيم الجنسي التقليدي للأدوار في المجتمعات العربية المسلمة التي تشارك في المقاومة. وبالتالي، فإن العدالة تتطلب مقاربة شاملة تضمن توفير الدعم لكل من النساء والرجال دون تمييز، مع مراعاة احتياجاتهم الفردية والسياقية.
وفي الختام، لنا أن نتخيل معاناة كافة الغزيين والنساء خاصة من انعدام الأمان والخصوصية في الخيم المكتظة وأماكن النزوح، مما يدفعهن لتجنب الذهاب إلى المراحيض ما استطعن وبالتالي يحجمن عن تناول الطعام أو شرب الماء. ورغم أن "صناديق الكرامة" قد توفر بعض الإغاثة الفورية، إلا أنها ليست بديلاً عن الكرامة الحقيقية التي تُستردّ من خلال التحرر من الظلم والاضطهاد. إن استخدام هذا المصطلح في غزة هو تضليل وسطحية تقزّمان من النضال العميق الذي يخوضه الفلسطينيون من أجل حريتهم. فالكرامة الحقيقية لا تُمنح من خلال مواد ملموسة، بل تتحقق من خلال العمل الحثيث على وقف إطلاق النار ومناصرة الفلسطينيين في نضالهم من أجل التحرر من القمع والعيش في ظل عدالة اجتماعية وسياسية حقيقية.
كما علينا أن ندرك أنه وفي سياق قطاع غزة، فالكرامة ليست مجرد حالة فردية، بل هي قيمة جماعية تمثل حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره والعيش بحرية وأمان، وأي محاولة لإعادة الكرامة من خلال مواد مادية، تُعدّ نوعًا من الغطرسة التي تتجاهل الجوانب الأكثر تعقيدًا وأهمية.
صحيفة نبض الشعب الاسبوعيه رئيس التحرير جعفر الخابوري